يقول ألبرتو مانغويل في كتابه فن القراءة : “أؤمن بأننا حيوانات قارئة وبأن فن القراءة في أوسع معانيه، يميز نوعنا الإنساني، نأتي إلى العالم قاصدين العثور على قصة تروى في كل شيء: في المنظر الطبيعي، في السماوات، وفي وجوه الآخرين، وبالطبع في الصور والكلمات التي يبدعها نوعنا، نحن نقرأ حيواتنا وحيوات الآخرين، نقرأ المجتمعات التي نعيش فيها وتلك الواقعة وراء حدودنا، نقرأ الصور والبنايات، نقرأ ما ينطوي عليه غلافا الكتاب.” يؤمن مانغويل أن القراءة فعل ساحر، وأنها تمنح العالم تماسكًا منطقيًا ولكن كيف بدأ كل هذا؟
لو رجعنا عدة خطوات عن موقعنا الحالي سنجد أن البشر الأوائل كانوا يشتركون معنا في الرغبة بالتواصل، سنجد جدران الكهوف ممتلئة بالرسوم والنقوش، لم تكن تلك اللوحات المرتجلة هدفها ترك إرث أو تزيين الكهف، بل كان هدفها هو التسجيل والتواصل، من يعيش هنا؟ كيف يعيش؟ ما الذي ينتظره بالخارج؟ وبأخد بضع خطوات للأمام نجد البشر بعدها يسجلون كل شيء على جدران معابدهم بل وقبورهم، في الحضارة المصرية القديمة كانت هناك مخطوطات تدفن مع الميت لكي ترشده في رحلته للخلود. في الحضارات القديمة لم تكن اللغة تطورت كما نعرفها الآن، لكن ذلك لم يكن عائقًا أمام التدوين، وبتطور الحياة اليومية للبشر واستقرارهم نشأت الأبجديات واللغات المختلفة حتى وصلنا ليومنا هذا، كل يوم هو يوم نقرأ فيه، ولكن ما المردود من القراءة؟
جاء الوحي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأول ما نزل عليه كان “اقرأ”، كان النبي أميًا ولكن الله اصطفاه وأول ما أمره به كانت القراءة، ثم تبعه بالإقرار بأهمية الكتابة في “الذي علم بالقلم” فبدون الكتابة لا توجد قراءة وبدون الاثنين لا توجد الحياة كما نعرفها الآن من تناقل الخبرات عبر الأجيال وتمريرها للأجيال التي تلينا.
لا تتوقف القراءة عند تبادل المعلومات فقط، بل تتوسع لتشمل التأملات والأفكار والمشاعر، تمتلئ الكلمات بمخزون ضخم من كل ذلك وتنقله إلينا، يعد البعض أن القراءة نوع من أنواع التأمل، عندما تقرأ أنت تترك كل شيء سوى الكلمات التي بين يديك، قد تأخذك تلك الكلمات لحقبة تاريخية ما، أو لمكان لم تزره قط، لو لمكان غير موجود من الأساس إلا في خيال الكاتب، كل ذلك يصب في خيالك أنت أيضًا ليصبح أكثر اتساعًا وأكثر قدرة على استيعاب العالم من حوله.
القراءة بطبيعتها ليست عملية استقبال فقط، بل عملية متشابكة من الاستقبال والتفكير والتحليل ينتج عنها أفكار أكثر تعقيدًا ووجهات نظر سواء للاتفاق أو المعارضة وكل ذلك ينتج نوع من المعرفة تتكون بالتراكم، على عكس المذاكرة أنت لا تقف عند المعلومة وحدها، بل تخرج منها لاستيعاب سياقها وتفكر بها في سياق عالمك أنت أيضًا وليس عالم الكاتب وحده.
يقول مارسيل بروست في كتاب “أيام القراءة”: “إن قراءة كل الكتب الجيدة هي بمثابة حوار مع الناس الأكثر حكمة في القرون الماضية والذين كانوا هم مؤلفيها.”
في كل جلسة قراءة أنت لا تجلس وحدك، حتى وإن كنت وحيدُا في غرفتك، عندما تقرأ لكاتب كان موجودًا منذ عدة قرون فأنت تستدعيه ليجلس معك ويعرض عليك أفكاره وتشتبك معه في نقاش حول تلك الأفكار، وحين تقرأ رواية تدور أحداثها في مدينة على بعد آلاف الكيلومترات فأنت تذهب إليها بمجرد أن تنظر في الصفحة التي أمامك، هذا كله يجعل الإنسان مطلعًا على حيوات عدة لم يكن ليراها بدون القراءة، قد نختلف في نوع الكتب التي نحبها ولكن سنتفق حتمًا في أهميتها وتأثيرها الفرد، ليس على أفكاره فقط، بل على روحه أيضًا، فالقراءة هي عملية مستمرة لتهذيب النفس.
تعتبر اللغة أداة اجتماعية، والقراءة هي الاستخدام الأمثل لاستخدام تلك الأداة، فلنجلس الآن ونفتح كتابًا لنغرق به.